نديمة حيّنا!! بقلم الاستاذ عادل كاطع العكيلي ... العراق //

المشارك عادل كاطع العكيلي
العراق

نديمة حيّنا!!
دائماً ما أتذكر تلك الجارة البائسة(نديمة) في حيّنا الفقير في الأيام التي كانت الحرب العراقية الإيرانية مشتعلة فيها، حين أقدم رجال الأمن على اعتقال زوجها(حميد) ذي الخمسة والأربعين عاماً، ولا أدري على أية وشاية رموه في دهاليز السجون، كنت اراها والدموع تنهمر من عينيها وتمنيت لو أني أرتحل بجسدي الصغير آنذاك إلى ذلك السجن الكبير في الأمن العامة أحفر خرماً في أحد جدرانه أتلصص منه على الدهاليز والزنزانات المظلمة وآتي إلى (نديمة) بشظف من همسات (حميد)، حين ألحظها تركن قدر الباقلاء وترتمي في حضن جارتنا(ام قاسم) وتنسحب وتتسلل دموعها مصحوبة بزفير يقطّع نياط القلب، في حينها نسعد بعظم النعمة أنّا لسنا كباراً، وكنا نبقى حتى الصباح في الليالي المقمرة نطارد القطط في الأزقة الترابية حيث شارعنا مختنقاً بعربات ببيع النفط التي تجرها الحمير والنصف الآخر بالبرك الآسنة والخرق وأكياس النايلون، وفي الأيام الممطرة نتحسس الممرات بين الأوحال ولا نسلم من رفسة حمار تهدلت أذناه من رشق المطر.
وراء سياج (ام قاسم) ظهرت(نديمة) صبيحة ذلك اليوم وقد أنبأها قلبها بأمر ما حين جاءوا بزوجها (حميد) بعد أن نقلوه من سجن إلى سجن حتى استراح في ظلال الموت، جلست (نديمة) أمام التابوت تنتحب وتولول، ونحن نتابع أخبارها ونترحم على زوجها (حميد)، اللافتات السوداء غفت على الجدران، ونديمة دفنت (حميد) خلسةً وكان ثمن لجسده (ديناراً) إضافياً ثمن لرصاصة الموت.
رجعت(نديمة) إلى مزاولة عملها الذي تقتات منه فتلتصق بالأرض حتى زوال الشمس ليس بينها وبين الحياة إلا خيط واهن استلته من الضياع، كنا نغفوا وآذاننا على مئذنة الجامع ترتل أسماء موتانا كل يوم في تلك الحرب الضروس نرقب السيارات (الكراون) التي تحمل التوابيت من الجبهة، وفي مساء ليلة من تلك الليالي كانت جثة(قاسم) فوق التكسي الكراون الحمراء، لم نجهد أنفسنا لنعرف لماذا مات! كأنها علّة حتمية ورثناها في عافيتنا.

راحت (أم قاسم) تنتحب على ولدها الوحيد، في تلك الأثناء كنا نرى (نديمة) في دارها وقد صفقت الرياح بابها المصنوع من الصفيح حتى اقتلعته، كانت في كل صباح تضع قبضة من الحشائش المبللة على رأسها تقيها حرارة الشمس وفي الشتاء تلتجئ الى الحيطان المتهاوية وتفترش الأرض المبللة، وفي الأيام الأخيرة لم نشاهدها تبيع الباقلاء فقد وهنت صحتها وأصابها الروماتزم، بسبب الفتحة الغائرة في كوخها المتهالك، فأصبحت تتعكز في عرض الكوخ تذرع البرد والظلام، و(أم قاسم) تعودها وتأتيها بالرز والسمن، وجدناها بعد أيام ممدة على الدكة الطينية في قلب الدار أغمضت عينيها  بسكون، وما كاد الصوت الأبدي يجيء من مئذنة جامعنا القديم لولا أن رجليها حملتاها إلى تلك الدكة،(انتقلت المرحومة نديمة إلى رحمة الله)، توفيت أمام الكوخ وكان قدر الباقلاء مازال يغلي فوق النار وصرّة معلقة، وبقايا أشياء من ملابس(حميد) يبدو أنها قد قضت ليلتها بجوارها لتعلمه بأنها سوف تلتحق به في القريب العاجل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصة حب من قلب الواقع بقلم الاستاذ محمد الدليمي ..... العراق //

وحدها الجدران تؤنسك بقلم الشاعرة لينا قنجراوي … سوريا //

إلى شرقي.. بقلم الشاعرة بيان الكنج.. سوريا //